القانون و السلطة : بيتر كروبوتكين

القسم الأول

“عندما يسود الجهل المجتمع و الخلل عقول الرجال , تتضاعف القوانين و التشريعات التي يتوقع منها أن تفعل كل شيء , و يصبح كل قانون جديد سوء تقدير جديد , و يُدفع الرجال بإستمرار للمطالبة بما لن يقدمه لهم أحد سوى أنفسهم و تعليمهم و أخلاقهم ” . . لم يكن ثوريا و لا حتى إصلاحيا من كتب هذا الإقتباس السابق , بل كان الفقيه القانوني (دالوي) Dalloy صاحب المجموعة القانونية الفرنسية “مرجع التشريع” Repertoire de la Legislation . و برغم أن كاتب هذه السطور كان مشرّعا محبا للقانون , إلا أنها تمثل حالة مجتمعنا الشاذة أصدق تمثيل .
 
ينظر إلى كل قانون جديد في الدول الحالية كعلاج للشر . و بدلا من أن يغير الناس ما هو سيء في أنفسهم , يبدأون بالمطالبة بالقوانين للتغيير . فإذا كانت الطريق بين قريتين غير سالكة , قال الفلاحون :” لابد من قانون لطرق الأبراشية.” و إذا ما حصّل حارس أرض الصيد فائدة ما من أولئك الذين يتبعون الصيد ثم أهان رجل منهم , قال الرجل الذي وقعت عليه الإهانة : “يجب أن يكون هناك قانون يوجب على حرّاس أرض الصيد المزيد من التأدب.” و إذا ما كان هناك ركود في الزراعة أو التجارة قال الفلاحون و مربيي الماشية أو مضاربي الذرة :”إن ما نحتاجه هو تشريعات توفر الحماية”. و وصولا إلى بائعي الملابس القديمة لا يوجد من لا يطالب بحماية تجارته الخاصة الصغيرة . و إذا خَفَّض صاحب العمل الجور أو زاد من عدد ساعات العمل , قال السياسيين الصغار :”لابد أن يكون هناك قانون لإصلاح هذا الوضع.” , بدلا من إخبار العمال بأن هناك طرقا أخرى أكثر فعالية لتسوية هذه الأمور و وضعها في نصابها الصحيح . و تعني بذلك إستعادة الثروة المسلوة التي سلبها رجال الأعمال على مدار أجيال . القانون بالإختصار في كل مكان و على كل شيء ! قانون للموضة و قانون للكلاب المسعورة و قانون للفضيلة و قانون لوضع حد لجميع الرزائل و جميع الشرور الناجمة عن كسل و جبن الإنسان .
إننا فاسدون بسبب التعليم الذي يقتل فينا روح الثورة منذ الطفولة , ليضع فينا روح الخضوع للسلطة , إننا فاسدون بوجودنا تحت عصا القانون الذي يتحكّم في كل حدث في الحياة – ولادتنا و تعليمنا و تطورنا و حبنا و صداقاتنا – و لو استمرت دولة السلطة و القانون فسنفقد كل مبادرة و كل عادة تفكير من أجل أنفسنا . و الظاهر أن مجتمعنا لم يعد قادرا على فهم إمكانية وجوده إلا في ظل سيادة قانون وضعته حكومة نيابية تمثيلية تدار من قبل حفنة من الحكام . و عندما ذهب إلى حد تحرير نفسه من العبودية , كان همه الأول إعادة تشكيل العبودية على الفور . و لم تستمر “سنة أولى حرية” أكثر من يوم واحد , لأن الرجال في اليوم التالي مباشرة وضعوا أنفسهم تحت وطأة القانون و السلطة .
و الحقيقة , أنه لبضعة آلاف من السنين , لم يفعل أولئك الذين حكمونا شيئا سوى سلسلة من التغيرات المبنية على “احترام القانون و طاعة السلطة” . و هذا هو المناخ الأخلاقي الذي الذي نشّأ فيه الآباء أطفالهم , و لم تخدم المدرسة شيئا قدر تأكيد هذه الفكرة الغامضة . فغرست – بدهاء – في ذهن الأطفال نفايات منسّقة من العلم الزائف لإثبات ضرورة القانون , و أصبحت طاعة القانون  دينا في حد ذاتها , و صُهر الخير الأخلاقي و قانون السادة في نفس الذات المقدسة . و صار البطل التاريخي لغرفة الدراسة التاريخي هو ذلك الرجل الذي يطيع القانون و يدافع عنه ضد المتمردين .
ينحتنا المجتمع و الأدب – عند تعاملنا مع الحياة العامة في وقت لاحق – يوما بعد يوم و ساعة بعد ساعة كما ينحت سقوط الماء الحجر , و استمر يرسخ في أنفسنا ذات التحيّز . و تمتليء كتب التريخ و العلوم السياسية و الإقتصاد الإجتماعي بهذا الإحترام للقانون, نفس العمل الذي نراه في الصحف , التي لا تخلو مقالة منها من التبشير باحترام القانون , بينما الصفحة الثالثة تثبت كل يوم حماقة هذا القانون , و كيف يمرّغه في الوحل و القذارة أولئك المسئولين عن إدارته . لقد أصبح الخضوع للقانون فضيلة . و إنني لأشكّ في أنّ أحدا من الناس , حتى الثوريين منهم , لم يبدأ شبابه كمدافع عن القانون ضد ما يسمى عامة بـ”الانتهاكات” , برغم أن هذه الأخيرة هي تبعات لا مفر منها للقانون نفسه .
يعزف الفن بانسجام يكاد يكون علما . فبطل النحات و الرسام و الموسيقي يحمي القوانين بدرعه , بعيونه الملتمعة و أنفه المنتفخة . . يقف مستعدا دائما ليردي ذلك الرجل الذي قد يضع يده عليها . فلها تقام المعابد, و الثوريون أنفسهم يترددون في لمس الكهنة المكرسين لخدمتها , و عندما توشك الثورة على أن تجرف بعض المؤسسات القديمة فإن هذا الفعل يجب أن تحل عليه القدسية التي يمنحها القانون !!
و اتخذت هذه الكتلة المشوشة من قواعد السلوك , التي تركتها لنا القنانة و العبودية و الإقطاع و الحكم الملكي , اسم القانون . و حل مكان الانصاب الحجرية التي كان يضحى بالبشر عليها من قبل , و التي لا يجرؤ العبيد الهمج على لمسها خشية صواعق السماء أن تقتلهم .
و قد ترسّخت العبادة الجديدة بنجاح خاص مع صعود الطبقة الوسطى (البورجوازية) إلى السلطة مع الثورة الفرنسية الكبرى . ففي ظل النظام القديم لم يكن أحد يتحدث عن القانون , ربما باستثاء (مونتيسيكيو) Montesquieu و (روسّو)  Roussea , و (فولتير)Voltaire  بسبب معارضتهم لنزوات الحكم الملكي . كانت طاعة ما يسر الملك و تابعيه إلزاميه خوفا من السجن أو المشنقة . لكن عندما ارتفع المحامون إلى السلطة أثناء و بعد الثورات , بذلوا ما في وسعهم لتعزيز المبدأ الذي تعتمد عليه هيمنتهم . و قُبلت الطبقة الوسطى (البورجوازية) فجأة باعتبارها السد الذي يمنع السيل الشعبي . و سارع الحشد الكهنوتي لتبريرها , لينقذوا أنفسهم من الإنهيار بين الحطام . ثم تقبَّلها الناس في النهاية على سبيل التقدم بعيدا عن سلطة الماضي التعسفية العنيفة .
لفهم هذا , يجب أن ننتقل بخيالنا إلى القرن الثامن عشر . لابد أن قلوبنا قد آلمتها قصص الفظائع التي ارتكبها النبلاء كليّ السلطة في ذلك الوقت في رجال و نساء من الشعب , قبل أن نتفهّم التأثير السحري لعبارة “المساواة أمام القانون , و طاعة القانون دون تمييز بسبب المولد أو الثروة” على عقول الفلاحين . فالفلاح الذي عومل حتى ذلك الحين بقسوة لم يعامل بها الحيوان , و لم يكن له حقوق قط , و لم يحصل قط على العدالة ضد كل أفعال النبلاء المقززة , سوى بقتل النبيل انتقاما ثم التعرض للشنق بعدها – رأى نفسه معترفا به من قبل هذا المبدأ . على القل من الناحية النظرية , و على الأقل فيما يتعلق بحقوقه الشخصية , و على قدم المساواة مع سيده . فمهما كان هذا القانون فهو يعد بمعاملة السيد و الفلاح على حد سواء . و يعلن المساواة بين الغني و الفقير أمام القضاء . و كان الوعد كذبة . و نحن اليوم نعرف هذا . لكنها في تلك الأيام كانت تعد سبقا , إجلال للعدالة , و النفاق هو تكريم مقدّم للحقيقة و هذا هو السبب أنه عندما ظهر منقذو الطبقة الوسطى (البورجوازية) (روبيسبيير) Robespierres و (دانتون) Dantons , تبنوا على الفور كتابات (روسّو) و (فولتير) و أعلنوا “احترام القانون و المساواة بين الرجال” فقبل الشعب التسوية , لأن القوة الدافعة الثورية كانت قد فقدت طاقتها في النضال مع الخصوم الذين كانت طبقاتهم تدنو يوما بعد يوم , و هكذا وضعوا رقابهم تحت نير القانون لإنقاذ أنفسهم من سلطة السادة الإعتباطية .
و قد استمرت الطبقة الوسطى (البورجوازية) في تحقيق الإستفادة القصوى من هذا المبدأ , و الذي لخّص مع مبدأ آخر و هو الحكومة التمثيلية فلسفة كامل العصر البورجوازي في القرن التاسع عشر . و قد بشرت البورجوازية بهذا المبدأ في مدارسها , و نشرته في كتاباتها , و شكّلت العلم و الفن لنفس الغرض , و دفعت بمعتقداتها في كل ثقب و زاوية – و كالإنجليزية الورعة التي تزلق الاوراق تحت الأبواب – و قد فعلت كل هذا بنجاح حتى أننا اليوم ننظر إلى المسألة في الواقع المقيت فنجد أنه في اللحظة ذاتها التي تستعيد روح الإنتقاد المتمرد الحياة , يبدأ الرجال الذين يتوقون للحرية في محاولة الحصول عليها باستجداء سادتهم أن يتفضلوا بحمايتهم من خلال تعديل القوانين التي خلقها هولاء السادة أنفسهم !!
لكن الزمن و المزاج قد تغيرا اليوم عن مائة عام مضت . و في كل مكان تجد متمردون لم يعودوا ينصاعون للقانون من دون معرفة من أين أتى و فيم يستخدم و لماذا يجب الإنصياع له أو يُشمَل بالتبجيل . المتمردون في عصرنا ينتقدون أسس المجتمع و التى بقيت مقدسة حتى يومنا هذا و في مقدمتها صنم القانون . و لهذا السبب فقط فإن الاضطراب الذي في متناول اليد ليس تمردا , بل هو الثورة .
بالنقد الموضوعي لمصادر القانون ستجد إما إله , أو منتج من أهوال الهمج , أو غبي , أو تافه , أو خبيث كالكهنة الذين يشهدون على اصله الخوارقي , أو سفك دماء أو غزوات و فتوح بالحديد و النار . لقد درسوا خصائص القانون , و بدلا من النمو الدائم المقابل لنمو الجنس البشري , و ستجد سمة مميزة له هي الجمود . الإتجاه لبلورة و تجميد ما ينبغي تعديله و تطويره يوما بعد يوم . يتسآلون كيف يتم الحفاظ على القانون ؟ و في خدمته يرون أعمال بيزنطة الشريرة و فظائع محاكم التفتيش , و التعذيب في القرون الوسطى , و تمزيق اللحم الحي تحت سوط الجلاد , و السلاسل و الأغلال و الفئوس , و الأقبية القاتمة و الألم و اللعنة و الدموع . و في أيامنا هذه نرى ما رأوه من قبل , الفأس , و الحبل . و البندقية , و السجن من جهة , و الأسير الذي يُعامل بوحشية , المنحط إلى مرتبة حيوان في قفص , المحتقر بالكامل على الجانب الآخر , و القاضي , المجرد من كل شعور يشرّف الطبيعة الإنسانية , الذي يحيا في عالم من الرؤى و الخيالات القانونية , المبتهج بإيقاع العقوبة سجنا أو موتا , بدون أدنى شك , في طبيعته الشريرة الباردة , في الهاوية التي سقط فيها هو نفسه أمام أعين أولئك الذين يدينهم ……..
نرى جنسا من المشرعين صانعي القوانين من دون معرفة ما تدور عنه هذه القوانين , يصوتون اليوم على قانون بشان الصرف الصحي في المدن , دون أدنى معرفة بمفهوم النظافة , و غدا يلفقون لوائح عن تسليح القوات , دون أن يفهم الكثير منهم في البنادق , و يضعون قوانين للتربية و التعليم دون ان يكون احدهم قد ألقى درسا قط في حياته أو حتى أشرف بصدق على تعليم أولاده . التشريع في كل اتجاه . . دون أن ننسى طبعا العقوبات التي سيتلقاها الصعاليك , و السجن و العمل على السفن . . ليلتزم بها رجال أقل أخلاقية ألف مرة من هؤلاء المشرعين أنفسهم  .
و أخيرا نرى السجانين يفقدون في الطريق كل شعور إنساني . و المباحث تتدرب على الولوغ في الدم و جواسيس الشرطة يحتقرون أنفسهم بقلبهم “التبليغ” إلى فضيلة . . و يندمج الفساد بالنظام , و يتم التغاضي عن الرزائل و كل الصفات البشرية الشريرة من أجل ضمان انتصار القانون .

و لهذا نحن نرى , بديلا عن التكرار التافه للصيغة القديمة ” احترام القانون ” قولنا : ” على الرغم من القانون ” و بديلا من العبارة الجبانة ” الإنصياع للقانون ” , صرختنا  ” ثر على كل قانون ” .

فقط قارن بين كل ما الآثام التي اقترفت باسم القانون و بين الخير الذي كان مفترضا فيه . زن بدقة كل من الخير و الشر . و لسوف ترى ما إذا كنا على حق .

القسم الثاني

 

إن القانون , نسبيا , هو نتاج العصر الحديث . فقد عاش البشر لعصور و عصور متطاولة من تاريخ الجنس البشري , دون أي قانون مكتوب , و لا حتى على شاكلة تلك رموزا محفورة على بوابات المعبد . و طوال هذه المدة , بقيت العلاقات الإنسانية منظمة بالعادات و التقاليد و الأعراف , و أكتسبت قداسة من استمرار تكرارها , و انتقلت من جيل إلى جيل , يتشرّبها كل إنسان في طفولته , تماما كما يتعلم كيفية الحصول على طعامه من خلال الصيد أو تربية الحيوان أو الزراعة .
لقد مرّت جميع المجتمعات البشرية بهذه المرحلة البدائية , و حتى يومنا هذا , هناك نسبة كبيرة من البشر ليس لديها قانون مكتوب . إذ أن كل قبيلة لديها أخلاقها و عاداتها الخاصة و قانونها العرفي , كما يقول فقهاء القانون . و لكل مجتمع عاداته الإجتماعية الكافية للحفاظ على علاقات ودية بين سكان القرية أو أعضاء القبيلة أو الجماعة . و حتى بيننا – نحن الأمم المتحضرة – عندما نترك المدن الكبيرة خلفنا , و نيمم وجهنا شطر الريف , نجد أن العلاقات المتبادلة بين السكان لا تزال تسير وفقا للعادات القديمة المقبولة عامة , و ليس وفقا لقانون المشرعين . الفلاحين في روسيا  و إيطاليا و إسبانيا , و حتى في أجزاء كبيرة من فرنسا و إنجلترا , ليس لديهم مفهوم القانون المكتوب . إذ يتدخّل القانون المكتوب في حياتهم فقط بقدر تنظيم علاقتهم مع الدولة . أما بالنسبة لعلاقاتهم بعضهم ببعض , و على الرغم من تعقيدها في بعض الأحيان , فتنظمها التقاليد القديمة . كما كان الحال مع كل الجنس البشري في السابق على وجه العموم .

و هناك تياران ملحوظان بوضوح عند تحليل معاملات البدائيين .

بما إن البشر لا يعيشون في حالة انفرادية , فإن ثمة عادات و مشاعر تتطور داخل الإنسان للحفاظ على المجتمع و استمرار النوع . و لولا هذه المشاعر و الأعراف الإجتماعية لاستحال العيش المشترك على الإطلاق . و من الواضح أن القانون لم يُنْشئ هذه الأعراف , بل هي سابقة على جميع القوانين . و لا الدين هو من رسم لها طريقا , فهي سابقة على جميع الأديان . لقد وجدت هذه الأعراف بين جميع الحيوانات التي عاشت في مجتمعات . و تم تطويرها بشكل عفوي بسبب من طبيعة الأشياء , مثل كل عادات الحيوان التي يسميها الإنسان بالغريزة . إنها تنبع من عملية التطور , و هو أمر مفيد , بل في الواقع ضروري , ليحفظ كيان المجتمع أثناء الصراع الذي يجبر على خوضه من أجل الحفاظ على وجوده . لقد انتهى الهمج إلى ترك أكل لحوم بعضهم البعض , لأنهم وجدوا أنه من المفيد أكثر على المدى الطويل أن يكرّسوا أنفسهم لنوع من التهذيب , بدلا من التمتع بلحم أحد الأقارب المسنين مرة في السنة . و قد وصف الكثير من الرحالة عادات قبائل منفصلة عن بعضها انفصالا تاما , بلا رؤساء و لا قوانين , و قد تخلى أفراد هذه القبائل عن طعن بعضهم البعض في حالات النزاع , لأن هذه العادة قد انتهت حين طوّر أولئك الذين يعيشون في المجتمع بعض مشاعر الإخوة و وحدة المصالح , مفضّلين الاستعانة بشخص ثالث لتسوية الخلافات . و إن كرم ضيافة البدائيين , و احترامهم للحياة البشرية , و شعورهم بالإلتزام المتبادل , و تعاطفهم مع الضعيف , و شجاعتهم التي قد تصل إلى التضحية بالذات من أجل الآخرين , و هي الفضائل التي كانت من قبل من أجل الأطفال و الأصدقاء ثم تطورت لاحقا لتشمل أفراد نفس المجتمع – كل هذه الصفات قد تطوّرت في بشر سابقين على وجود القوانين , و بصورة مستقلة عن أي دين , كما هو الوضع بالنسبة للحيوانات الإجتماعية . مثل هذه المشاعر و الممارسات هي نتائج حتمية للحياة الإجتماعية . هذه الصفات إذن ليست فطرية في الإنسان , كما يقول رجال الدين و الماورائيين , بل هي نتيجة الحياة المشتركة .
و لكن جنبا إلى جنب مع هذه العادات , الضرورية لحياة المجتمعات و المحافظة على النوع , تطورت رغبات و مشاعر أخرى , و بالتالي عادات و تقاليد أخرى , تتعلق بالرغبة في الهيمنة على الآخرين و فرض إرادة المرء عليهم , و الرغبة في الإستيلاء على نتاج عمل قبيلة مجاورة , و الرغبة في إحاطة الذات بوسائل الراحة دون إنتاج أي شيء , بينما العبيد يمدون سادتهم بكل أسباب المتعة و الرفاهية – مثل هذه الأنانية و الرغبات الشخصية تؤدي إلى تيار آخر من العادات و التقاليد . فرجل الدين و المحارب . الدجال الذي يصنع ربحه من الخرافات , و بعد أن يخلص نفسه من الخوف من الشيطان , يزرع هذا الخوف في الآخرين , و النهّاب الذي يجعل رزقه من الاعتداء على جيرانه و نهبهم ليعود محملا بالغنائم , و يتبعه العبيد, هؤلاء الإثنان قد نجحا , يدا بيد , في فرض العادات و الأعراف المفيدة لكل منهما على المجتمع البدائي , العادات و الأعراف التي تميل إلى دوام هيمنتهما على الجماهير . مستفيدين من كسل و مخاوف و جمود الحشود, و بفضل التكرار المستمر لنفس الأفعال , التي أصبحت بمرور الوقت أساسا صلبا لهيمنتهم الخاصة .

 

من أجل هذا , استغلوا في المقام الأول ذلك الميل الطبيعي للنمطية و التكرار , و هو ميل على درجة عالية من التطور في  الجنس البشري . و يمكن ملاحظته بنسبة عالية في الأطفال و البدائيين , كما يمكن ملاحظته في الحيوانات . إذ أنّ الإنسان عندما يكون في كليته مؤمنا بالخرافات , فإنه دائما ما يخشى تحقيق أي نوع من التغيير في الظروف القائمة , و يقدّس كل ما هو قديم . ” آباؤنا فعلوا كذا و كذا , و حققوا إنجازات رائعة , و ربّوك , و لم يكونوا تعساء قط , فافعل مثلهم !!” هذا ما يقوله العجائز للشباب في كل مرة يرغب فيها الشباب في تغيير الأمور . إن المجهول يخيفهم , لذلك يفضّلون التشبث بالماضي , حتى لو لم يمثّل هذا الماضي سوى الفقر و القهر و الإستعباد . بل يمكننا القول أنه كلما ازداد بؤس الإنسان , كلما خشي كل شكل من أشكال التغيير , خشية أن تزيد بؤسه . يجب أن ينفذ إليه في كآبته بصيص من الأمل و فتات من العون , قبل أن يبدأ في الرغبة بأشياء أفضل , لينتقد أساليب الحياة القديمة , و يتهيأ للمخاطرة بها في سبيل إحداث التغيير . لذلك طالما لم يكن الإنسان مشبعا بالأمل , و طالما لم يكن حرا من وصاية أولئك الذين يستغلون خرافاته و خوفه , فسيفضّل البقاء في موضعه السابق . و إذا ما رغب الشباب في أي تغيير , رفع العجائز صرخات الإنذار ضد المبدعين . بل إن بعض البدائيين قد يفضل الموت على انتهاك التقاليد , لأنه قد نشأ على أن أقل انتهاك للروتين الراسخ سيجلب سوء الحظ , و سيدمّر القبيلة بأكملها . و حتى في أيامنا هذه , كم من السياسيين و الإقتصاديين و المدّعين من الثوريين يعملون تحت تأثير نفس الأفكار , و يتشبثون بالماضي المتلاشي . كم منهم يهتمّ فقط بالبحث عن سوابق الحوادث , و كم من المبدعين المتقدين ليس سوى مقلّد للثورات السابقة .
إن روح الروتين / التقليد التي تنشأ عن الخرافة و الكسل و الجبن , كانت في كل الأوقات الركيزة الأساسية للإضطهاد . و قد استغل هذه الروح , في المجتمعات الإنسانية البدائية , بمهارة , رجال الدين و العسكر . فشجّعوا استمرار التقاليد المفيدة لهم وحدهم , و نجحوا في فرضها على كامل القبيلة . و كلما أمكن استغلال هذه الروح المحافظة لتمكين القائد من التعدي على حريات الآخرين الفردية , كلما صارت عدم المساواة بين البشر ترتيب من عمل الطبيعة , لا من تركيز السلطة و الثروة , و عند هذا الحد لا يصبح هناك حاجة للقانون , و لا عقوبات  القضاء المروّعة على الممتلكات الفردية و لا التحفيز الدائم لفرضه بالقوة .
لكن كلما انقسم المجتمع أكثر فاكثر إلى طبقتين متعاديتين , تسعى أولاهما إلى فرض سيطرتها , و تكافح الأخرى من أجل النجاة , يبدأ النزاع . و الفاتح الآن على عجلة من أمره في الحصول على فائدة  لأعماله في شكل إطار دائم , فيحاول إنزال أعماله تلك مقاما بعيدا عن المساءلة , ليجعلها مقدسة مبجّلة من كل أدوات سلطته . فيخرج القانون للوجود بإقرار رجال الدين . و يوضع المحاربون في خدمته . و تكون مهمتهم ضمان عدم تغيير التقاليد التي كانت دوما في صالح الأقلية المهيمنة . أما السلطة العسكرية فتتعهد ضمان الطاعة .. لقد صارت هذه الوظيفة الجديدة ضمانة جديدة لسلطة المحارب . فالآن لم يعد لديه مجرد القوة الغاشمة و فقط , بل صار كذلك المدافع عن القانون .
لكن , إذا لم يكن القانون قد قدّم شيئا سوى مجموعة من الوصفات لخدمة الحكام , لوجد في تأمين القبول و الطاعة شيئا من الصعوبة . حسنا , لقد خلط المشترعون في تشريع واحد كلا التيارين من الأعراف , التيارين الذين تكلمنا عنهما للتو , القواعد الثابتة التي تمثّل مباديء الخلاق و التماسك الإجتماعي التي شكّلتها الحياة المشتركة , مع الأوامر الرسمية التي هدفت إلى ضمان وجود ظاهر لعدم المساواة . و قد دمجت التقاليد , التي هي بلا ريب اساسية لوجود المجتمع , في التشريع ببراعة مع الأعراف التي فرضتها الطبقة الحاكمة , و طولب الناس باحترام كلا التيارين بشكل متساو . قال القانون : ” لا تقتل ” , و سارع إلى إضافة : ” و أدفع العشور للكاهن ” . و قال القانون : ” لا تسرق ” , ثم أضاف بعدها مباشرة : ” إن من يرفض دفع الضرائب , ستقطع يده . ”

كان هذا هو القانون , و قد حافظ على طابعه ذي الوجهين حتى يومنا هذا . و كان منشأه رغبة الطبقة الحاكمة في إسباغ الدوام على التقاليد التي تفرضها بنفسها لصالحها . و كان طابعه خلط التقاليد النافعة للمجتمع , التقاليد التي لا تحتاج إلى قانون لضمان احترامها , بالتقاليد التي تعود بالنفع فقط على الحكام , و بالضرر على الجماهير , و لا يبقي عليها إلا الخوف من العقاب .
و تماما مثل رأس المال الفردي , الذي انبثق عن العنف و الغش , و نما تحت رعاية السلطة , ليس لدى القانون أدنى أحترام للإنسان .  و لأنه ابن العنف و الخرافة , و قد نشأ في كنف مصالح الإستهلاك , و الكهنة و المستثمرين الأغنياء , فلابد من تحطيمه في اليوم الذي ستكون رغبة الناس فيه , كسر الأغلال ..
و لا يزال لدينا ما نعرضه على سبيل الإقناع , في الفصل التالي , إذ سنقوم بتحليل تطور القوانين الأقصى تحت رعاية الدين و السلطة و النظام البرلماني القائم ..

القسم الثالث
رأينا في الفصل السابق , كيف نشأ القانون من التقاليد و المعاملات الراسخة , و كيف كان – منذ نشأته الأولى – مزيجا ماهرا من العادات الإجتماعية الضرورية للحفاظ على الجنس البشري , مع تقاليد أخرى , فرضها أولئك الذين اعتادوا استخدام الخرافات و الخوف من المجهول , فضلا عن شريعة القوة من أجل مصالحهم الخاصة . هذا الطابع المزدوج للقانون هو ما حدد طبيعة تطوره لاحقا من خلال نمو التنظيم السياسي . فبينما بقيت نواة العادات الإجتماعية المنصوص عليها في القانون بلا تغيير أو بتغيير طفيف تدريجي على مر العصور , تطوّر القسم الآخر من القانون إلى حد كبير في إتجاهات المصالح التي حددتها الطبقة المسيطرة , و ضد مصالح الطبقات المتعرضة للقمع . و من وقت لآخر , سمحت هذه الطبقة المسيطرة بإنتزاع قانون منها , يقدّم , أو يبدو أنه يقدّم بعض الضمانات للمحرومين . لكن أمثال هذه القوانين لم تكن سوى تكرار لقوانين سابقة , صيغت من أجل مصالح الطبقة الحاكمة . “إن أفضل القوانين” كما يقول (باكل) Buckle “هي التي تكرر تلك السابقة عليها” . لكن , كم من جهود رهيبة قد بُذلت , و كم من أنهار دم قد أُريقت , في كل مرة تكون المسألة فيها إلغاء واحد من تلك القوانين الأساسية التي تعمل على بقاء الناس في الأغلال . كان على فرنسا مثلا , أن تمرّ بأربع سنوات من الثورة و عشرين عاما من الحرب , قبل أن تتخلص من بقايا حقوق القنانة و الإقطاع , و تتمكن من تفتيت سلطة الديوان الملكي . و احتاج الأمر عقودا من الصراع لإلغاء أقل القوانين جورا , و التي ورثناها عن الماضي , و حتى مع ذلك , فإنها نادرا ما تختفي إلا في فترات الثورات .

لقد قصّ الإشتراكيون تاريخ نشأة الرأسمالية مرارا من قبل . و وصفوا كيف ولدت من رحم الحرب و النهب و الرق و القنانة , و من الإحتيال الحديث و من الإستغلال . و بيّنوا كيف تغذّت على دماء العمال , و كيف غزت العالم كله شيئا فشيئا . إن نفس القصة , بخصوص نشأة و تطور القانون , لا تزال بحاجة أن تروى . و كما هي العادة فقد أفسدت الحكمة الشعبية خطة المثقفين . لقد توصّل بالفعل إلى وضع فلسفة لتاريخه , و ما يزال مشغولا بإرساء معالمها الأساسية .

إن القانون من خلال صفته الضامنة لنتائج النهب و العبودية و الاستغلال , قد اتّبع نفس نهج التطوّر الذي سلكته الرأسمالية , توأمان هما .. شقيق و شقيقة , و قد تطورا معا يدا بيد , و حافظ أحدهما على الآخر على حساب معاناة البشرية . و في كل بلد أوروبي كان تاريخهما واحدا تقريبا . فقط قد أختلفت التفاصيل , لكن الحقائق الأساسية بقيت هي هي على حد سواء , و إن إلقاء نظرة على تطوّر القانون في فرنسا أو ألمانيا كفيل بتبيين سمات ذلك التاريخ الأساسية , و مراحل تطوره , في معظم الدول الأوروبية .

كان القانون , في المقام الأول , جزءا من عقد وطني . ذلك العقد الذي كان يتم بالتوافق بين الفيالق و الشعب في (ساحة المريخ) Champ de Mars 1 , و لا تزال مخلفات من تلك الفترة محفوظة حتى الآن في ميدان مايو Field of May , في الكانتونات السويسرية البدائية , على الرغم من كل التعديلات التي تولى القيام بها كل من تدخّل المركزية و حضارة البرجوازية ..

و الحق أن قبول هذا العقد لم يكن دائما يتم بحرّية . لأنه حتى في تلك الأيام الأولى كان الأغنياء و الأقوياء يفرضون إرادتهم على الآخرين . لكنّهم واجهوا – في جميع المناسبات – عقبة تجاوز جماهير الناس , الذين غالبا ما جعلوهم يشعرون بسلطتهم في المقابل ..
لكن مع نجاح المؤسسة الدينية من ناحية , و النبلاء من ناحية أخرى , في فتنة الناس , أفلت الحق في صياغة القانون من أيدي الأمة ليقع في أيدي الطبقات الممتازة . و إذ قوّى مركز المؤسسة الدينية , الثروة التي تكدّست في خزائنها , بدأت المؤسسة الدينية في توسيع مدى سلطاتها , فعبثت أكثر و أكثر بالحياة الخاصة , و تحت ذريعة إنقاذ الأرواح , استولت على جهد أقنانها , و قامت بجباية الضرائب من كل الطبقات , و زادت بنظرها في الدعاوي , و ضاعفت العقوبات , و أثرت نفسها بما يتناسب مع عدد الجرائم التي ارتكبتها , من أجل الحصول على كل غرامة تتدفق إلى خزائنها . لم يعد لدى القوانين أية صلة بمصالح الأمة . أو كما لاحظ مؤرخ القانون الفرنسي : ” ربما كان من المفترض أن تصدر تلك القوانين من مجلس من المتعصبين الدينيين بدلا من المشرعين ” .

في غضون ذلك , مدّ (البارون) سلطته أيضا , على العمال في الحقول و الحرفيين في المدن , و أصبح هو الآخر مشرّعا و قائدا . و إن الناظر في الآثار القليلة المتبقية من القوانين الوسطنية التي يرجع تاريخها إلى القرن العاشر لا يجد سوى اتفاقات لتنظيم الخدمة العسكرية , و الأعمال الأساسية , و الضرائب المستحقة على الأقنان و الخدمات المستحقة تجاه سيدهم . كان المشرعون في ذلك الوقت حفنة من اللصوص الذين نظّموا نهب البشر يوما بعد يوم بطريقة أكثر سلمية , لأنهم قد ربطوا أنفسهم بالمهن الزراعية . و قد استغلّ هؤلاء اللصوص المشاعر الكامنة في البشر تجاه العدالة , فقدّموا أنفسهم كحماة لها , جاعلين قسما من الدخل لأنفسهم , بحكم من مبادئها الأساسية و قوانينها الملفّقة , التى تحفظ لهم كامل الهيمنة و السيطرة .
لاحقا , جمع الفقهاء التشريعيون هذه القوانين و صنّفوها , مشكلين منها أساس تشريعاتنا المعاصرة . ثمّ يحدثوننا عن احترامها , إرث الكاهن و البارون ؟
كانت الثورة الأولى , ثورة التحول لنمط المدينة , ناجحة في القضاء على هذه القوانين جزئيا , و كانت مواثيق تحرير المدن , في معظمها , مجرد حل وسط بين تشريعات الأسقف و تشريعات البارون , و بين العلاقات الجديدة التي نشأت داخل المدن الحرة نفسها .  لكن ما أعظم الفارق بين تلك القوانين و القوانين التي لدينا اليوم !! لم تاخذ المدينة على نفسها مثلا مهمة سجن أو إعدام المواطنين , لأي سبب يتعلق بالدولة : بل أكتفت بطرد أولئك الذين تآمروا مع أعداء المدينة , و بتسوية منازلهم بالأرض . و اقتصرت على فرض غرامات على ما يسمى بـ “الجرائم و الجنح” , إذ ربما كانت مدن القرن الثاني عشر الميلادي أكثر إدراكا لمبدأ أساسي من مباديء العدل قد طواه اليوم النسيان , و هو أن المجتمع بأسره مسئول عن جنوح كل فرد من أفراده . كانت نظرة مجتمعات ذلك الوقت للجريمة على أنها حوادث عارضة أو سوء حظ , هذا الادراك المشترك بين الفلاحين الروس في ذلك الوقت . و من ثم , لم يعترفوا بمبدأ الانتقام الشخصي كما بشّر به الكتاب المقدّس , لكنهم ألقوا باللوم في كل جنوح على المجتمع ككل . وقد أحتاج الأمر لكامل تأثير الكنيسة البيزنطية , التي استقدمت وحشية الاستبداد الشرقي المصقولة للغرب , لادخال عقوبة الاعدام في عادات الشعوب الغالية و الجرمانية . ثم حاقت بعد ذلك مصائر مريعة بأولئك الذين تم اعتبارهم مجرمين . كما أحتاج كذلك إلى كامل نفوذ القانون الروماني , ثمرة فساد إمبراطورية روما لإدخال مفاهيم مثل الملكية المطلقة للأرض , تلك المفاهيم التي أطاحت بالعادات الشيوعية للأقوام البدائيين .
و كما نعلم , فإن المدن الحرة لم تكن قادرة على الصمود . و قد مزقتها الخلافات الداخلية بين الأغنياء و الفقراء , المواطنين و الأقنان , فوقعت فريسة سائغة للمَلَكِيَّة . و كلما أكتسب الملوك قوة جديدة , أنتقل حق التشريع أكثر فأكثر إلى أيدي زمرة من رجال الحاشية . و أصبح الـ “نداء إلى الأمة” يُطلق فقط من أجل إقرار الضرائب التي يطالب بها الملك . و استدعاء البرلمان على مدى قرنين وفقا لمزاج أو نزوات البلاط , و كانت “المجالس غير العادية ” و “جمعيات الأعيان” و الوزراء , و بصورة نادرة “استجابة الملك لمظالم العباد” هي مصادر التشريع في فرنسا . و استمر الأمر لاحقا , حتى تركّزت السلطات كلها في شخص رجل واحد , كان بإمكانه القول : “أنا الدولة” , فكانت المراسيم تعد من قبل “مستشاري الأمير السريين” , وفقا لأهواء وزير أو ملك أبله , و كان على الرعية الطاعة حذر الموت . كانت جميع الضمانات القضائية ملغاة , و الأمة مستعبدة لملك و حفنة من رجال الحاشية . و تباغت أنظارنا في تلك الفترة أفظع العقوبات , الموت على العجلة و الحرق على الخازوق و السلخ حيا و عذابات من كل نوع , اخترعها مرضى الوهم من الرهبان و المجانين , الواجدين كل بهجة في معاناة المجرمين ساعة الإعدام ..

بدأت الثورة الكبرى في هدم إطار هذا القانون الذي ورثناه عن الإقطاع و الملكية . غير أنها بعد أن هدمت بعض أجزاء الصرح القديم , أعطت بأيديها سلطة صياغة القانون للبورجوازية , و الذين بدورهم , أستهلّوا بإنشاء إطار جديد للقوانين , يهدف إلى دوام هيمنة  الطبقة الوسطى (البورجوازية) على الجماهير . في الوقت الذي أنطلق فيه البرلمان يسن التشريعات يمنة و يسرة , حتى تراكمت جبال منها بسرعة مخيفة , لكن ترى ما كل هذه القوانين التي في القاع ؟

إن القسم الأكبر من القانون قد وضع لهدف واحد – حماية الملكية الخاصة , أي الثروة التي تم اكتسابها عن طريق استغلال الإنسان لأخيه الإنسان . إن هدف هذه القوانين هو فتح مجالات جديدة لرؤوس الأموال من أجل الإستغلال , و إقرار الأشكال الجديدة التي يتخذها الاستغلال باستمرار , كلما التهم رأس المال قسما آخر من النشاط البشري , و السكك الحديدية و التلغرافات و الإضاءة الكهربائية و الصناعات الكيميائية , و التعبير عن الفكر الإنساني في الأدب و العلوم , إلخ . أما بقية تلك القوانين فإن الهدف من وجودها هو نفسه في الأساس . الحفاظ على الجهاز الحكومي , الذي يعمل على تأمين ذلك الاستغلال و احتكار الثروة المنتَجَة لحساب رأس المال .

يخدم القضاء و الشرطة و الجيش و التعليم العام و الإقتصاد إلها واحدا , هو رأس المال , و لدى جميع هذه القطاعات هدف واحد , تسهيل استغلال صاحب رأس المال للعمال . و لنحلل جميع القوانين التي صدرت على مدار الثمانين عاما الماضية , و سوف لن نجد شيئا سوى هذا . بينما تحتل حماية الفرد , و التي تعتبر المهمة الحقيقية للقانون , مساحة ليست ذات بال بين القوانين , لأن الاعتداءات المباشرة التي يمليها الحقد و الوحشية , على الأشخاص , في المجتمع القائم , تنزع إلى أن تختفي . ففي الوقت الحاضر , لو حدث ان قتل شخص ما فإن ذلك يحدث بشكل عام بغرض السرقة , و نادرا بغرض الإنتقام الشخصي . لكن إذا كان هذا النوع من الجرائم و الجنح يتناقص باستمرار , فإننا بالتأكيد لا ننسب ذلك التغيير إلى التشريعات . بل نرجع ذلك إلى نمو النزعة الإنسانية في مجتمعاتنا , و لتنامي عاداتنا الإجتماعية , لا إلى وصفات قانونية ما . ألغ غدا كل القوانين التي تتناول الحماية الشخصية , و لسوف تتوقف في الغد جميع الإعتداءات , و لن تزيد تلك الإعتداءات التي يمليها الإنتقام الشخصي أو الوحشية عما هي عليه , و لو بحالة واحدة .

ربما سيكون هناك اعتراض , بأن الكثير من القوانين الليبرالية الجيدة قد سُنَّت خلال الخمسين عاما الأخيرة , لكن تحليل تلك القوانين لا يكشف سوى تماثلها مع قوانين القرون الهمجية السابقة . إن كل قانون ليبرالي , و كل برنامج راديكالي , يمكن تلخيصه في الكلمات التالية : إلغاء القوانين التي صارت مزعجة للطبقة الوسطى نفسها , و العودة إلى الحريات التي تمتّعت بها المدن الحرة في القرن الثاني عشر لتشمل جميع المواطنين . مثل إلغاء عقوبة الإعدام , و محاكمة جميع “الجرائم” أمام هيئة محلفين (و قد كانت هذه الهيئة أكثر ليبرالية في القرن الثاني عشر) و انتخاب القضاة , و الحق في محاكمة الموظفين العموميين , و إلغاء الجيوش النظامية , و التعليم المجاني , إلخ . و بالجملة كل ما ينسب أختراعه إلى الليبرالية الحديثة , مما ليس إلا عودة إلى الحريات التي كانت موجودة أصلا قبل أن تستولي المؤسسة الدينية و المؤسسة الملكية على كل مظهر من مظاهر الحياة البشرية .
و إذن , فإن الحماية المباشرة للاستغلال عن طريق قوانين الملكية , و غير المباشرة عن طريق الحفاظ على الدولة , هما روح و جوهر قوانيننا المعاصرة , و الوظيفة الوحيدة لآلياتنا التشريعية عالية الكلفة . لكن حان الوقت الذي نتخلى فيه عن اكتفائنا بالكلمات المجرّدة , لنتعلم مغزاها الحقيقي . إننا ندرك أن القانون الذي يقدّم نفسه للوهلة الأولى على أنه خلاصة العادات المفيدة للحفاظ على المجتمع , ليس سوى أداة للحفاظ على استمرار استغلال , و سيطرة الأغنياء العاطلين على الجماهير . و في لحظتنا الراهنة , إن رسالة القانون الحضارية هي لا شيء في الواقع , و إن كان له هدفه واحد , هو دعم الإستغلال .
هذا ما أخبرنا به التاريخ عن تطوّر القانون . فهل بموجب هذا التاريخ نحن مدعوون إلى احترامه ؟ بكل تأكيد , كلا . إذ ليس له سند شرعي يوجب احتراما أكثر مما لدى الرأسمالية , ثمرة السلب و النهب , و إن أول واجبات ثوار القرن التاسع عشر هي إضرام النار في كل القوانين القائمة , كما في كل سندات الملكية .
—————————————————————-
1 (التشامب دي مارس) : جمعية سنوية للفرنجة المبكرين , و كانت تعقد في مارس , أول شهور السنة عندهم .
القسم الرابع

يبدو أن كل تلك الملايين من القوانين التي وجدت من أجل تنظيم البشرية , يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات رئيسية : حماية الملكية , و حماية الأفراد , و حماية الحكومة . و من خلال تحليل كل من هذه الفئات الثلاث , فقد وصلنا إلى نفس الاستنتاج المنطقي , إن القانون عديم الجدوى , و مؤذ .

و الإشتراكيون يعرفون ما هو المقصود بحماية الملكية . إن قوانين الملكية لا توضع من أجل ضمان تمتع الفرد أو المجتمع بإنتاجهم الخاص . بل هي , على العكس , قد وضعت بغرض سرقة جزء من إنتاج المنتجين و تأمين أولئك الذين يسرقون من الأفراد أو من المجتمع ككل . خذ عندك المثال التالي , عندما ينص القانون على حق السيد فلان في ملكية منزل , فإنه لا يشرّع لحقه في منزل صغير يبنيه لنفسه , أو لمنزل يقيمه بمساعدة بعض أصدقائه . ففي هذه الحالة لن ينازعه أحد حقه أبتداء . بينما على العكس , يشرّع القانون لحقه في ملكية المنزل الذي ليس من نتاج عمله , لأنه , في المقام الأول , قد بُني له هذا المنزل بواسطة آخرين لم يُدفع لهم القيمة الكاملة لعملهم , و لأن المنزل – ثانيا – يمثّل قيمة إجتماعية , لم يكن بإمكانه إحداثها لنفسه . فالقانون إذن يؤسس لحقه في ما ينتمي إلى الجميع بشكل عام  , و لا ينتمي إلى أحد على وجه الخصوص . إن نفس المنزل الذي بني في وسط سيبيريا لن يكون بذات القيمة إذا بني في مدينة كبيرة , و كما نعلم , فإن هذه القيمة ناشئة من عمل نحو خمسين جيلا من الرجال الذين بنوا المدينة , و جمّلوها , و أمدّوها بالماء و الغاز , و المتنزهات الرائعة , و الكليات و المسارح و المحلات التجارية و السكك الحديدية و الطرق الممتدة في كل إتجاه . و بالتالي , فإنه من خلال الإعتراف بحق السيد فلان في ملكية منزل معين في باريس أو لندن أو رووين Rouen , فإن القانون يعطيه بغير حق  ما هو نتاج عمل الجنس البشري ككل . و هذا بالتحديد – إذ أن هذا التخصيص و جميع أشكال الملكية الأخرى , و التي تحمل نفس الطابع , هي ظلم صارخ – يحتاج إلى ترسانة كاملة من القوانين , و جيوش كاملة من الجنود و رجال الشرطة و القضاة , للدفاع عنه ضد الحس السليم و الشعور بالعدالة المتأصلين في البشر .

حسنا , إن نصف قوانيننا , القانون المدني في كل بلد من البلدان لا تخدم شيئا سوى الحفاظ على هذا التخصيص , و هذا الإحتكار لصالح بعض الأفراد , ضد البشرية جمعاء . و ثلاثة أرباع القضايا التي تفصل فيها المحاكم ليست سوى خلافات بين المحتكرين – اثنان من اللصوص يتنازعان على غنيمتهم . و إن الكثرة الكاثرة من قوانيننا الجنائية لها نفس الغرض في النهاية , الحفاظ على تبعية العامل لصاحب العمل , و بالتالي ضمان الأمن للاستغلال .
على أنه لا توجد قوانين تضمن للمنتج نتاج عمله , لا توجد قوانين تحاول حتى شيئا من هذا القبيل . هذا أمر بسيط و طبيعي , و جزء لا يتجزّأ من العادات و التقاليد البشرية , حتى أنّ القانون لم يفكّر فيه كثيرا . إن قطع الطرق و انتشار السلاح ليس سمة من سمات عصرنا . و لا أن يأتي عامل فيتنازع على إنتاج عامل آخر . و إذا ما حدث بين اثنين سوء تفاهم فغالبا ما يتم حلّه عن طريق شخص ثالث , دون اللجوء إلى القانون . إن الوحيد الذي ينتزع من الآخر ما أنتجه هذا الآخر , هو المالك , الذي يأتي فيقتطع حصة الأسد . و كما هو حال البشر بشكل عام , فإن حق كلّ إنسان فيما أنتجه محترم في كل مكان , بدون أي تدخل من أي قانون ..
 و ليس لدى قوانين الملكية , التي تملأ المجلدات السميكة , و تبهج المحامين , من غرض سوى حماية إستيلاء محتكرين معينين بجور على كدح البشر , هي إذن بلا سبب , و يوم تقوم الثورة , سيكون على الثوار الإشتراكيين وضع حد لها . و الحقيقة , أنه من أجل عدالة كاملة , ينبغي إحراق كل ما يسمى بـ حقوق الملكية و جميع سندات الملكية و كل السجلات , و بالجملة , كل ما له صلة بالقانون الذي سينظر إليه قريبا على أنه وصمة عار في تاريخ الإنسانية , تماما كمهانة الرق و قنانة العصور الماضية .
و إن الملاحظات التي ذكرتها للتو عن القوانين المتعلقة بالملكية تنطبق تماما على الفئة الثانية من القوانين , و الخاصة بالمحافظة على الحكومة .. أعني القانون الدستوري .
و لدينا , مرة أخرى , ترسانة كاملة من القوانين و المراسيم و اللوائح و الأوامر في المداولات و غيرها , تهدف جميعها لحماية أشكال الحكومة التمثيلية المتنوعة , مفوضة كانت أو مغتصبة , يرزح تحت نيرها البشر . و نحن نعلم جيدا , فيما أشار إليه الأناركيون بما فيه الكفاية في انتقاداتهم الدائمة لأشكال الحكومة المختلفة – أن مهمة جميع الحكومات , ملكية كانت أو دستورية أو جمهورية هي حماية امتيازات الطبقات أصحاب الملكيات و الطبقات الأرستقراطية و رجال الدين و التجار , و الحفاظ عليها بالقوة .
أما القسم الثالث من قوانيننا  – و يسنّ في كل قرن عشرات الألوف منها – فيشمل القوانين الأساسية للضرائب و الرسوم غير المباشرة و تنظيم الدوائر الوزارية بمهامها من جيش و شرطة و كنيسة , و ما إلى ذلك , مما لا نهاية له , من أجل الإبقاء عليها و تسوية خلافاتها و تطوير جهازها الإداري . الجهاز الذي يخدم بدوره , و بشكل كامل تقريبا , حماية امتيازات الطبقات صاحبة الملكيات . و لتحلّل هذه القوانين , و لتراقب عملها يوما بعد يوم , و لسوف تكتشف أن أيا منها لا يستحق الحفاظ عليه .
و لا يمكن أن يكون هناك خلاف حول هذه القوانين . فاللاسلطويون , و الثوريون الراديكاليون إلى حد ما , متفقين أن الشيء الوحيد الذي ينبغي فعله بالقوانين المتعلقة بتنظيم الحكومة هو إلقائها في المحرقة .

أما الفئة الثالثة من القوانين , و التي ما يزال يتعين النظر فيها , فهي تلك المتصلة بحماية الأشخاص و كشف “الجرائم” و منعها . و هي الفئة الأهم , لأن معظم التحيزات مرتبطة بها , لأنه إذا كان القانون يتمتّع بقدر معين من الأهمية , فإن منبعها هو الاعتقاد بأنه لا غنى عن ذلك النوع من القانون على الإطلاق , في سبيل الحفاظ على الأمن في مجتمعاتنا . و هي تلك القوانين التي نشأت من نواة العادات المفيدة للمجتمعات البشرية , و التي وضعها الحكّام في حساباتهم من أجل تبرير سيطرتهم . حيث اعتمدت سلطة زعماء القبائل , و العائلات الغنية في المدن , و الملوك , على وظائفهم القضائية , حتى يومنا هذا , و حيثما نوقشت ضرورة الحكومة , كانت يتم الإشارة إلى وظيفتها باعتبارها قاضي القضاة . ” بدون حكومة سيمزق البشر بعضهم بعضا إلى أشلاء ” , أو هكذا قال واعظ القرية . أو كما قال (بورك) : ” إن الهدف النهائي من أية حكومة هو تأمين إثني عشر محلفا أمينا لكل شخص متهم ” .

حسنا , على الرغم من التحيزات المسبقة القائمة حول ذلك الموضوع , فإن الوقت قد حان كي يعلن اللا سلطويون بجرأة أن تلك الفئة من القوانين عديمة الجدوى , بل و ضارة مثل الفئات السابقة .
فباديء ذي بدء , بخصوص ما يسمى بـ “الجرائم” – و هي الإعتداء على الأشخاص – فمن المعروف أن ما بين ثلثي إلى ثلاثة أرباع هذه “الجرائم” يكون الدافع إليها الرغبة في الحصول على ما يحوزه شخص ما من الثروة . تلك الفئة الكبيرة مما يطلق عليه اسم ” الجرائم و الجنح ” سوف تختفي في نفس اليوم الذي ستزول فيه الملكية الخاصة من الوجود . و سيقال : ” لكن سيكون هناك دائما متوحشون ممن يحاولون الإعتداء على حياة المواطنين , و الذين تمتد أيديهم لأسلحتهم البيضاء في كل مشاجرة , و ينتقمون من أقل إهانة بالقتل , ما لم تكن هناك قوانين تكبح جماحهم و عقوبات لتقيّدهم . و تتكرر هذه “اللازمة” في كل مرة يثار فيها التساؤل حول حق المجتمع في توقيع العقاب .

لكن هناك حقيقة واحدة قد بنيت عليها هذه الفكرة التي ترسخت تماما في الوقت الحاضر , إن شدة العقوبة لا تقلل من عدد الجرائم . فلتشنق , أو إن شئت , فلتقطّع القتلة إربا , و لن تقلّ جرائم القتل جريمة واحدة . و من ناحية اخرى , ألغ عقوبة الإعدام و لن تزيد جرائم القتل , بل ستقلّ . و الإحصائيات تثبت هذا . لكن إذا ما كان الحصاد جيدا , و الخبز رخيصا , و الطقس جيدا , فسينخفض عدد جرائم القتل بصورة فورية . و هذا ما تثبته الإحصائيات أيضا . أن عدد جرائم القتل تزيد و تقل بحسب أسعار المؤن و حالة الطقس . صحيح أن ليس كل جرائم القتل تحدث بدافع الجوع . ليس هذا هو الوضع . لكن عندما يكون المحصول جيدا و المؤن في المتناول , و عندما تكون الشمس مشرقة , يصبح الإنسان أكثر أنشراحا و أقل بؤسا من المعتاد , فلا يفسح المجال للمشاعر القاتمة , أو يدفع سكينه , لسبب تافه , في صدر رفيق .

 

علاوة على ذلك , لم يوقف الخوف من العقاب قاتلا واحدا , و هذه حقيقة معروفة . فالذي يقتل جاره بدافع الانتقام أو البؤس لا يفكر كثيرا في العواقب , و قليل من القتلة حقا من لم تكن قناعته راسخة بضرورة الهرب من الملاحقة القضائية .

 

 

و دون أن أتحدث عن مجتمع يتلقى فيه الإنسان تعليما أفضل , و يكون فيه تطور قدراته و إمكانية ممارستها , مصدر لمتع جمة , لن يسعى لتسميمها بالندم – أقول دون الحديث عن مجتمع المستقبل – و حتى في مجتمعنا , حتى مع كل منتجات البؤس التي نراها في الملاجيء العامة في المدن الكبيرة يوميا – فإنه في اليوم الذي لن تلحق فيه بالقتلة عقوبة , لن تزيد حالات القتل و لو حالة واحدة , بل إنه من المحتمل جدا أن يحدث العكس , فتتناقص تلك الحالات التي تحدث بسبب معتادي الإجرام , الذين تعرضوا للمعاملة الوحشية في السجون .

 

 

يحكون لنا باستمرار عن الفوائد التي يمنحها القانون , و عن الأثر الإيجابي للعقوبات , لكن هل حاول أي من هؤلاء المتحدثين تحقيق أي توازن بين تلك الفوائد المنسوبة للقانون و العقوبات , و بين تأثير تلك العقوبات نفسها المهين للطبيعة البشرية ؟ و لتحسب فقط كل المشاعر الشريرة التي توقظها العقوبات الوحشية في الطبيعة البشرية و التي كانت تتصرّف سابقا في شوارعنا !! إن الإنسان هو أقسي حيوان على وجه الأرض , و قد طوّر و أشبع غرائز وحشية غير معروفة , حتى بين القرود , فإذا لم يكن الملك أو القاضي أو الكاهن مسلّحا بالقانون , فمن سيمزق اللحم إلى شرائح , و يغلي القار ليصبه في الجروح , و يبتر الأطراف و يسحق العظام , و يمزّق البشر إربا ليحتفظ بسلطته ؟ و لتقدّر تيار الفساد المنطلق من عقاله , من خلال تأييد القضاة , و الإنفاق الحكومي السخي , تحت ذريعة المساعدة في اكتشاف “الجريمة” . و لتقصد مباشرة إلى الأهداف و لتدرس ما سيصبح عليه الإنسان المحروم الحرية و المحبوس مع محرومين آخرين , غارقا في الفساد و الرذيلة التي ترشح بها جدران سجوننا الحالية . فقط تذكّر أنه كلما تم إصلاح هذه السجون أكثر كلما صارت مقيتة أكثر , فسجوننا النموذجية الحديثة أكثر بغضا من زنازين العصور الوسطى . و أخيرا , فلتأخذ في الإعتبار الفساد و تقييد عقول البشر الناجم عن فكرة الطاعة , التي هي جوهر القانون , و فكرة العقاب , و أن للسلطة الحق في المعاقبة , و فكرة المحاكمة بغض النظر عن مكنونات ضمائرنا و تقدير أصدقائنا , و فكرة ضرورة السج , و الجلادين و المخبرين – و بالجملة كل سمات القانون و السلطة . لتأخذ في الاعتبار هذا كله , و لسوف توافقنا الرأي بكل تأكيد بأن قانون يقرر عقوبات هو شيء بغيض ينبغي أن يزول .

 

 

لدى البشر الذين بلا تنظيم سياسي , و بالتالي الأقل فسادا و انحرافا منا , فهمٌ تام بأن الإنسان الذي يدعى “مجرما” هو ببساطة إنسان سيء الحظ , و أن العلاج ليس بجَلْدِه أو تقييده في السلاسل أو قتله على المشنقة أو سجنه , و لكن بالتخفيف عنه بالرعاية الأخوية , و بالمعاملة المؤسسة على المساواة , و بالأعراف المتبعة بين الشرفاء . و إننا نأمل أن يكون لصرختنا تلك صدى في الثورة المقبلة .

” أحرقوا المقصلة , و أهدموا السجون , و ابعدوا القضاة و رجال الشرطة و المخبرين  – الجنس الأكثر قذارة على وجه الأرض , و عاملوا الإنسان باعتباره أخ شقيق قاده الإنفعال للتسبب في السوء لزميل له . و قبل كل شيء تجاوزوا ما أنتجه تبطّل البورجوازية من حقارة عرض رذائلها في حلل قشيبة , و كونوا على ثقة في أن جرائم قليلة للغاية ستعكّر صفو مجتمعنا “
إن الدعائم الرئيسية للجريمة هي التبطّل و قوانين الملكية و قوانين تنظيم الحكومة و قوانين الجنايات و الجنح , و السلطة , التي تأخذ على عاتقها صياغة هذه القوانين و تطبيقها .
لا مزيد من القوانين ! لا مزيد من القضاة ! .. لأن الحرية .. و المساواة .. و التعاطف إنساني هي فقط الحواجز الفعالة التي يمكن أن نعارض بها غرائز البعض منّا المعادية للمجتمع ..
Source: mokh-zalabia

About tahriricn

bringing together anarchist perspectives from the Middle East, North Africa and Europe

Posted on December 9, 2012, in Theory of Anarchism, العربية and tagged , , . Bookmark the permalink. Leave a comment.

Leave a comment